في ذاكرة بوسعادة الثقافية، لا يعلو صوتٌ فوق صوت الفنّ والروح، حيث تمازجت الرمال بالحرف، والظل باللون، والكلمة بالصورة. منذ أن وطأ الفنان الفرنسي ناصر الدين دينيه أرض بوسعادة في مطلع القرن العشرين، تغيّر وجه المدينة… لا، بل تَكشّف.
جاء دينيه، المستشرق المغامر، باحثًا عن الضوء المختلف والوجوه النقية، فرأى في بوسعادة فجرًا داخليًا يشبه الحلم. رسم نخيلها، شوارعها، مآذنها، أحياءها الشعبية، وخلّد في لوحاته وجوه البسطاء وهم يرتّقون الحياة بالبسمة والتقوى. ثم لم يلبث أن أسلم، وتحوّل من “إيتيان دينيه” إلى “ناصر الدين دينيه”، ودفن في أرض المدينة التي أحبّها، إلى جوار رفيق دربه محمد بن إبراهيم.
لكن دينيه لم يكن البداية ولا النهاية. فقد سبقه شعراء شعبيون خلّدوا الملحون والمجون والمديح، وتلاه مبدعون وفنانون صنعوا مجدًا ثقافيًا محليًا بصمت وعناد.
برز في العقود الأخيرة شعراء مثل الطيب طواهرية وبوعلام حمدي، الذين كتبوا عن الهوية والحنين والتمرد، كما ظهرت أقلام نسوية قوية تعبّر عن المرأة البوسعادية بجرأة وعمق.
وفي مجال الفنون التشكيلية، حمل المشعل بعد دينيه أسماء مثل بن شنين عبد القادر، والمداني عمارة، ونور الدين بخاري، الذين أعادوا قراءة المدينة بألوان مختلفة، تنهل من التراث والتاريخ، لكنها لا تهرب من الحاضر.
ولم يكن المسرح غائبًا، فقد شكّلت “فرقة النبراس” و”جمعية النجوم” وغيرهما، محاضن لتجارب مسرحية جادة، تمزج بين الشعبي والحديث، وتتناول قضايا الهوية والانتماء.
أما الموسيقى، فقد تنفّستها المدينة عبر فن الشعبي والموسيقى الأندلسية، من خلال أعلام كـ الشيخ كمال وفرقة عشاق الأمل، مرورًا بالإنشاد الديني الذي غدا تقليدًا متجددًا في كل مواسم المدينة الثقافية.
إن ما يجمع هؤلاء جميعًا هو كونهم أبناء مدينة لا تتظاهر بالثقافة، بل تتكوّن منها. مدينة تتنفس الفن وتعيش الكلمة وتفهم اللون، لأنها في الأصل رسمٌ على الصخر، ونقشٌ على الجدران، وجرسٌ في الصمت.
في بوسعادة، لا تنتهي القصة عند دينيه… بل تبدأ معه، وتستمر مع كل مبدع يكتب أو يرسم أو يغنّي لأنه لا يستطيع إلا أن يحبها.
هل ننتقل الآن إلى المقال الثامن؟
“من الأرشيف الفرنسي إلى الذاكرة الشفوية: أين نبحث عن بوسعادة؟”