لا يمكن لمن يكتب عن بوسعادة أن يكتفي بالنظر إلى حاضرها فحسب، أو يركن إلى الذاكرة العاطفية وحدها. فمدن التاريخ، مثل بوسعادة، تُقرأ في الشهادات، في الأرشيف، في النصب، وفي التفاصيل التي تبدو هامشية لكنها تحمل الحقيقة كلها.
عبر قرن ونصف من التحوّلات، رسمت المدينة حضورها في عدد كبير من الوثائق الرسمية، والصحف الفرنسية، والتقارير الإدارية، خاصة في الفترة الممتدة بين 1849 و1954. يُعد الأرشيف الفرنسي اليوم مصدرًا لا غنى عنه لأي باحث عن تاريخ بوسعادة الاستعماري؛ سواء في أرشيف الجزائر العاصمة، أو المكتبة الوطنية الفرنسية (BnF)، أو في قواعد بيانات مثل Gallica، وANOM، التي تحوي وثائق المحاكم، تقارير البلدية، والخرائط الطوبوغرافية، وحتى صور المراسيم والعقوبات الجماعية.
هذه الوثائق توفّر سردًا رسميًا، لكنه يبقى ناقصًا إن لم يُقارن بـ”الذاكرة الشفوية”. ففي المقاهي، والزوايا، وفي حديث المسنين، تختبئ روايات موازية؛ عن المجاعة، عن مقاومة الفلاقة، عن سوق “القصبة”، عن قوافل الحج، عن الشيخ الطيب العقبي وعن كفاح النسوة في خياطة الراية والثورة.
الخطورة تكمن في إهمال هذا التوازن: فمن يعتمد فقط على الأرشيف الاستعماري قد يقع في فخّ القراءة المنتقاة، ومن يركن إلى الشفوي دون تمحيص، قد ينسج حكاية أسطورية تبتعد عن الواقع.
ولهذا، فإن “الموسوعة الرقمية – بوسعادة أنفو” تقوم على مبدأ الازدواجية التوثيقية:
أن نأخذ من الأرشيف ما يؤكد الحدث، ومن الذاكرة ما يفسّر أثره، وأن نضع بينهما رأي الباحث، وتمحيص المؤرخ، وتجربة الناس.
ولأننا نكتب من الداخل، فلدينا فرصة نادرة لتجميع الصور القديمة، دفاتر الأحوال الشخصية، عقود الشراء، قصاصات الصحف، ونسخ المحاضر التي يحتفظ بها المواطنون في أدراج منازلهم، دون أن يعرفوا أنهم يملكون كنزًا.
وإذا أردنا أن نجيب حقًا عن سؤال:
“أين نبحث عن بوسعادة؟”
فالجواب هو: في كل مكان.
في الأرشيف… وفي رواية جدّتك.
في وثيقة عسكرية… وفي بيت من الملحون.
في شهادة مناضل… وفي صورة مهترئة على جدار مدرسة.